ندرة المياه بقلم د. معتصم أبو شعبان
ندرة المياه بقلم د. معتصم أبو شعبان
ندرة المياه بقلم د. معتصم أبو شعبان
حقائق وأرقام
قد لا يفهم الكثير من الناس مصطلح “ندرة المياه”، على الرغم من كثرة تداوله في العديد من وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة. فمع توفر مياه الشرب إلى حد كبير لدى أغلب الشعوب عدا المجتمعات التي تعاني من الفقر المدقع، قد يصعب على الناس فهم طبيعة المشكلة والتحديات التي تفرضها على العالم. لذلك، وضعت الأمم المتحدة مقياسًا لمستوى معاناة الدول من هذه المشكلة من خلال حساب مدى توفر المياه المتجددة* بالنسبة لتعداد سكانها. فتوصف الدول بأنها تعاني من ندرة المياه إذا قل نصيب الفرد فيها من المياه المتجددة عن 1000 متر مكعب سنويًا، أما في حال انخفض نصيب الفرد عن 500 متر مكعب سنويًا، يسمى ذلك بالفقر المائي المدقع أو الشح المطلق. ويرجع السبب في مشكلة ندرة المياه إلى التغير المناخي الناتج عن الثورة الصناعية، بالإضافة إلى الزيادة المطردة في عدد السكان ما يزيد بدوره الطلب على الماء والطعام والطاقة.
تعاني أغلب دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من مشكلة ندرة المياه، إذ تصنف حاليًا 18 دولة منها (من أصل 22 دولة) بأنها تحت خط الفقر المائي. وتكافح دول أخرى مثل باكستان وإيران لكيلا تدخل تحت هذا الخط في السنوات القليلة القادمة. وتتفاوت الاستراتيجيات التي تتبعها الدول في مواجهة خطر ندرة المياه ما بين إدارة الفاقد في شبكات المياه، والتوفير في استخدامها، وإعادة تدويرها، وتوفير مصادر جديدة لمعالجة المياه وتحلية المياه المالحة.
خبرتي في مشروعات إعادة تدوير المياه
على مدار الأعوام العشرة الماضية، عملت في الكثير من المشروعات المهمة المرتبطة بمعالجة هذه القضية، من أبرزها مشروع زيادة إنتاجية المياه وتحسين السبل المعيشية للمزارعين في وادي الأردن من خلال معالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها في أغراض الري والزراعة. وتسهم المياه المعالجة من الصرف الصحي في زيادة إنتاجية بعض المحاصيل بسبب توفر المغذيات بها مثل النيتروجين، وبالتالي لا تحتاج إلى إضافة أسمدة، ولكن هذه العملية تعتمد بشكل كبير على نوع المحاصيل.
وقد أقيم هذا المشروع بالتعاون بين معهد أي إتش إي ديلفت لعلوم المياه في هولندا، وسلطة وادي الأردن، والمركز الوطني للبحوث الزراعية، وجامعة البلقاء والجامعة الأردنية. وقد نجح المشروع في تحسين إنتاجية المحاصيل الزراعية بفضل المغذيات الموجودة في المياه المعالجة، وزيادة وعي المزارعين حول أهمية هذا المشروع في الحفاظ على موارد البيئة وزيادة إنتاجيتهم. وأعمل حاليًا على مشروع آخر في المغرب لإعادة استخدام المياه التي تخلفها المصانع باستخدام التقنيات منخفضة الطاقة لمعالجة المياه وتحليتها واستخدامها مرة أخرى في أغراض الصناعة. وينفذ هذا المشروع بالشراكة بين جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية ومجموعة المكتب الشريف لاستخراج واستغلال الفوسفات. ويهدف هذا المشروع إلى إعادة تدوير 90 % من المياه المخلفة من المصانع باستخدام تقنيات متقدمة توفر من 20 إلى 30 % من استهلاك الطاقة مقارنة بتقنيات تحلية المياه التقليدية.
آليات إدارة موارد المياه
تكتسب آليات إدارة موارد المياه والحفاظ عليها الكثير من الأهمية في معالجة هذه المشكلة. فعلى سبيل المثال، تعتمد بعض الدول المتقدمة استخدام آلية الحصاد المائي على عدة مستويات يتم فيها جمع مياه الأمطار من خلال الشبكات المخصصة لذلك أو من أسطح المنازل لإعادة استعمالها. ويعتبر استخدام الصنابير التي تعمل بحساسات لضمان عدم نزول المياه إلا مع وضع الأيدي تحت الصنبور منعًا لإهدارها من أبسط صور إدارة المياه. وبالتالي، يجب التعامل مع قضية ندرة المياه على مختلف الأصعدة بداية من الحفاظ على المياه على المستوى الفردي إلى إعادة تدوير مياه الصرف الصحي أو المياه المخلفة على المستوى الحكومي. كما يجب تطوير أساليب وتقنيات حديثة لإدارة المياه بفاعلية والحد من استهلاكها.
وهناك الكثير من التقنيات الحديثة التي يتم استخدامها حاليًا لتحلية مياه البحر أو المياه الجوفية وتحويلها إلى مياه عذبة صالحة للشرب، ولكن عادة ما تتطلب هذه التقنيات استهلاك الكثير من الطاقة مقارنة بتقنيات معالجة المياه، ومن أشهر هذه التقنيات هي تقنية التناضح العكسي*.
وتتفاوت تقنيات تحلية المياه من حيث الكفاءة والتكلفة، فبعضها باهظ الثمن ويتعذر استخدامه في الدول النامية، ومن ثم تُجرى الأبحاث حاليًا في هذه الدول للخروج بحلول محلية أكثر كفاءة من حيث التكلفة. ومع ذلك، فقد انخفضت تكلفة التحلية بنسبة كبيرة تصل إلى 75% على مدار 25 عامًا حتى وصلت إلى 0.36 دولار أمريكي للمتر المكعب في بعض المحطات. ويرجع انخفاض أسعار تحلية المياه إلى البحث والتطوير وإيجاد تقنيات جديدة تزيد من كفاءة المحطات، بالإضافة إلى انتشار استخدام هذه التقنيات عالميًا وزيادة الطلب عليها.
وبالطبع، لا تخلو هذه التقنيات الحديثة من بعض السلبيات، مثل ارتفاع معدلات استهلاكها للطاقة، وارتفاع نسبة الأملاح الناتجة عن تحلية المياه والتي يتم التخلص منها عادة في مياه البحر والأودية، ما يؤثر بدوره على البيئة البحرية والمياه الجوفية. كما ينتج عن استخدم مولدات الطاقة انبعاثات الكربون التي تلوث الهواء وتؤثر على طبقة الأوزون وتتسبب أيضًا في التلوث السمعي بسبب ما تصدره من ضوضاء.
الآفاق المستقبلية لمشكلة ندرة المياه
يتجه العالم بأسره اليوم إلى تطبيق منهجية نيكسس NEXUS التي تربط بين الطاقة والمياه والأمن الغذائي لضمان الاستغلال الأمثل لهذه الموارد، فعلى سبيل المثال: يستخدم الماء في الزراعة وإنتاج الطاقة وفي الوقت نفسه، يحتاج إنتاج المياه والري إلى الطاقة. ولذلك، تسعى بعض الدول إلى استخدام مصادر الطاقة الخضراء مثل الطاقة الشمسية والرياح بالإضافة إلى استخدام المياه لإنتاج الهيدروجين الأخضر والذي يعتبر مصدرًا للطاقة النظيفة. ومن المتوقع أن يستخدم الهيدروجين الأخضر كمصدر للطاقة بشكل كبير في المستقبل لخفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون عالميًا، وتقليل آثار التغيير المناخي والأضرار البيئية الناتجة عن استعمال الوقود الأحفوري.
مشكلة المياه في قطاع غزة
يعاني قطاع غزة من نقص كبير في مصادر المياه، حتى قبل حرب أكتوبر 2023، فالمياه الجوفية مالحة وغير صالحة للشرب. وبالتالي يعتمد السكان على محطات صغيرة لتحلية المياه. ويتم شراء المياه المحلاة وحفظها في خزانات منزلية لاستخدامها في الشرب، بينما تُستخدم مياه البلدية في الغسيل وغيرها من الأغراض الأخرى. وكان من المخطط في عام 2018 بناء محطة مركزية كبيرة في قطاع غزة لتحلية المياه بسعة 300,000 متر مكعب يوميًا باستخدام تقنية التناطح العكسي، ولكن تعذر بناؤها بسبب الحصار المفروض على قطاع غزة.
مع الأسف، تتفاقم مشكلة نقص المياه كل يوم في قطاع غزة بسبب الحرب التي دمرت كافة المرافق ومحطات التحلية، وأصبح توفير مياه الشرب مقتصرًا على الحلول الفردية غير التقليدية، والتي لا تفي باحتياجات السكان للشرب، ما تسبب في انتشار الكثير من الأمراض.
قلة أصحاب الاختصاص
نجد اليوم أن معظم الشباب المهتمين بدراسة الهندسة يتجهون إلى مجال تكنولوجيا المعلومات وهندسة الكمبيوتر والبرمجيات نظرًا لزيادة الطلب على هذه التخصصات عالميًا. وبعد بضع سنوات سيؤدي ذلك حتمًا إلى تشبع السوق العالمي بهذا المجال وافتقاره إلى تخصصات أخرى لا تقل أهمية في مجالات تتعلق بالهندسة وتطبيقاتها، مثل معالجة المياه وتقنياتها.
وختامًا، على الرغم من خطورة مشكلة ندرة المياه وضرورة التعامل معها على مستوى الدول من خلال التقنيات الحديثة والأبحاث المعقدة، يمكن أن يلعب الوعي بأهمية المياه وندرتها دورًا كبيرًا في حل هذه الأزمة. فيجب أن تبدأ الشعوب في تبنى ممارسات أكثر وعيًا بمشكلات البيئة للحد من إهدار المياه والتعامل معها بحكمة باعتبارها من أهم مقومات الحياة على الأرض.
*المياه المتجددة: هي كمية المياه السطحية والجوفية المتاحة للاستعمال البشري خلال مدة زمنية (سنوية) ويتأثر منسوبها بتساقط الأمطار السنوية.
*التناضح العكسي أو الأسموزية المعاكسة: هي عملية معاكسة للظاهرة الطبيعية المسماة بالتناضح. في التناضح العكسي ينتقل الماء من المحلول الأعلى تركيزا للأملاح نحو الأدنى عبر غشاء شبه نافذ باستخدام الضغط.